«صان الحجر» قصة قصيرة للكاتب الدكتور فراج أبوالليل

 قصة قصيرة للكاتب الدكتور فراج أبوالليل
قصة قصيرة للكاتب الدكتور فراج أبوالليل

عندما هجر أبي الصعيد .. عشت بعض من طفولتي في تلك القرية البعيدة .. لا أعلم سبب محدداً لتسميتها بهذا الاسم "صان الحجر" .. ولكن الفلاحين يختصرون الوصف في جملة أو جملتين .. ربما كثرة الأعمدة الأثرية والحجارة الضخمة المبعثرة في ربوع القرية كان سبباً لتلك التسمية..

فلماذا نسي البشر اسمها القديم "تانيس" .. عندما يختفي البشر لا يتبقي سوي الحجر ربما شاهداً بالحق أو الزور .. لا أحد يعلم الحقيقة.. عاشت "خضره" في ذلك البراح العتيق .. هي فتاة ممشوقة القوام  ..  ناعمة الملمس .. عشقتها دروب  قرية "صان الحجر"  .. في يوم واحد من كل عام كانت تطل علينا بابتسامتها الهادئة .. تمتلئ الترع بالسمك النيلي .. تتزين الحقول باللون الأخضر .. كانت ضحكاتي مسموعة عندما لطمتني مياة الفيضان .. مرت أعوام دون رؤيتها  .. بعدما تزوجها "الأحمر".. ذاك الشاب الجبلي .. ذو الشعر المجعد .. وأنفه المبططة .. تاركاً الصيف حاراً في قلوب محبيها .. كنت أصلي من أجلها.. فهل يستجيب الرب لدعواتي بالطلاق؟..

مرت ثلاثة أعوام صامتة.. لم يترك لها حروفاً للكلام .. مازالت أفعاله خرساء.. جرد "خضره" من ملابسها .. تركها في ركن موحل ناحية الغيط القبلي .. ذاك الركن الموحش حيث جثة "الأبيض" تصرخ كل مساء وسط أعشاب الغاب والسمار في تلك البقعة المالحة .. مغرية زوجته الثانية .. تلك الطرية ذات الشعر الأشقر .. لا أحد يعلم جنسيتها .. يطلقون عليها "الصفراء".. وبعضهم ينعتها بالغجرية ..  قالوا بأنها فرنسية القوام .. وتهامسوا بأنها بخيلة بيد ألمانية الصنع  .. لا تطعم الطعام سواء للقريب أو البعيد .. لم يشاهدها أحد .. منحها السيد "الأحمر" بعض الرقصات المعسلة والساخنة .. جعلت بعض الدهابة الأثرياء يتجمعون حول خصرها النحيف في منزله علي أطراف القرية ناحية جبل الذهب  ..

حين تزوج "خضره" .. تحايل علي أبيها  .. قالوا بأن جده "الأسمر"  .. ذاك الثري العجوز .. هو من استولي علي جزيرة طرح النيل  .. بحجة مزورة  .. ساعده في ذلك محاميه "الرمادي"  ..  مص ما تبقي من رحيق في أزهارها اليانعة .. لم يطلق "خضره" ظلت كل تلك السنوات بين الخوف والأمل .. جف جلدها الغض .. تساقطت أوراقها الخضراء ..

كنت بائس مثلها .. وإن شئت قل فلاح هزيل يدور مع الريح في ساقية "الرمادي" .. بعد وفاة أبي .. لم تترك لي الحياة غير قطعة خبز جاف وعود من الفجل البلدى .. وبعض بقايا من قطع الجبنة تعوم مع دود المش في بلاص قديمة .. زحف  الحجر علي الأرض البراح يجردها من الخضار .. تكاثر البوم .. الفئران ملئت الربع الخالي من قرية " صان الحجر" .. تركت  الأرض للغرباء  .. بيعت بثمن بخس .. بدراهم معدودة .. لم يتبق سوي عنفوان الشباب .. وقد بيع هو الآخر للغربة ..  تزوج معظم شباب القرية من ذوات الشعر الأصفر والعيون الخضر .. هجر الخير القرية .. تمدد نفوذ "الصفراء" .. جلبت الكثير من الفتيات الشقراوات.. رائحة الرغبة  جعلتني بين الحين والآخر استرق البصر من خلف سور منزلها العالي .. أملاً فى الهجرة أو الزواج من شقراء غربية .. عندما أشارت بيدها الطرية .. تهلل الحلم .. ولكنها وضعت يدها بسرعة .. حين سقطت من علي السور الحجري مكسور الساق والأمل.